{{{ان الذي يفتي في كل ما يسألونه مجنون وغشاش}}}
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله أمابعد :
فإنّه قد شاع في زمننا هذا عدم التورع من الفتوى والكلام على الله بغير علم ومعلوم خطر هذا الأمر عند العقلاء وربنا عز وجل يقول { ولاتقف ماليس لك له به علم إنّ السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً}
ولذا أحببنا أن نبيّن لأنفسنا ولإخواننا خطر هذا الأمر وننقل لهم بعضاً من كلام سلفنا رحمهم الله تعالى
فأقول مستعيناً بالله :
ينقسم الجهل إلى ثلاثة أقسام
الجهل البسيط:
هو فهم مسألة ما دون إحاطة كاملة.
الجهل الكامل :
وهو خلاف العلم بالمسألة أي إن صاحبها لايعلم من المسألة شيئا.
الجهل المركب:
وهو أسوء أنواع الجهل، وهو فهم الأمر خلاف ماهو عليه.
ولكن استخدم القرآن الكريم غالباً لفظ الجهل بمعنى الاعتقاد الفاسد ، أما ما هو عكس العلم في القرآن الكريم فهو اللاعلم أي فراغ النفس من العلم بشيء ما أو نقص العلم حوله.
والجهل مرض خطير:
قال أحمد بن محمد الواسطي
كم جاهلٍ متواضعٍ ...ستر التواضعُ جهله
ومميزٍ في علمِه … هدمَ التكبرُ فضلَهُ
فدعِ التكبرَ ما حي … يتَ حييت ولا تصاحبْ أهلَهُ
فالكبر عيبٌ للفتى … أبداً يقبح فعله
وقال ابن قتيبة :
لا يزال المرء عالما ما دام في طلب العلم ، فإذا ظن أنه قد علم فقد بدأ جهله
وقال آخر:
رأسمالك علمك ، و عدوك جهلك
واعلم أخي المبارك أنّ الأصل في الإنسان يُولَد جاهل عن العلم وفارغاً عنه كما قال تعالى :
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
قوله تعالى : والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا " ذكر أن من نعمه أن أخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا لا علم لكم بشيء .
وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : لا تعلمون شيئا مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم .
الثاني : لا تعلمون شيئا مما قضي عليكم من السعادة والشقاء .
الثالث : لا تعلمون شيئا من منافعكم
ثم ابتدأ فقال : وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة أي التي تعلمون بها وتدركون ; لأن الله جعل ذلك لعباده قبل إخراجهم من البطون وإنما أعطاهم ذلك بعد ما أخرجهم ;
أي وجعل لكم السمع لتسمعوا به الأمر والنهي
والأبصار لتبصروا بها آثار صنعه ،
والأفئدة لتصلوا بها إلى معرفته .
والأفئدة : جمع الفؤاد نحو غراب وأغربة .
فائدة:
وقد قيل في ضمن قوله وجعل لكم السمع إثبات النطق لأن من لم يسمع لم يتكلم ، وإذا وجدت حاسة السمع وجد النطق .
وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة " إمهاتكم " هنا وفي النور والزمر والنجم ، بكسر الهمزة والميم .
وأما الكسائي فكسر الهمزة وفتح الميم ; وإنما كان هذا للإتباع .
الباقون بضم الهمزة وفتح الميم على الأصل . وأصل الأمهات : أمات ، فزيدت الهاء تأكيدا كما زادوا هاء في أهرقت الماء وأصله أرقت .
وقد تقدم هذا المعنى في ( الفاتحة ) .
لعلكم تشكرون فيه تأويلان : أحدهما : تشكرون نعمه . الثاني : يعني تبصرون آثار صنعته ; لأن إبصارها يؤدي إلى الشكر .
راجع تفسير للقرطبي رحمه الله تعالى
وقال لنبيه مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {ووَجَدَك ضالاً فهدى } أي جاهلاً عن أمور الشريعة
وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار ( ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي ) أي جاهلين عن أمور الشريعة
ولذا ينبغي ويجب الاعتراف بالنقص وعدم الكمال ، ومهما بلغ علم الإنسان فلا يبلغ حدّ الكمال في علمه قال تعالى { وفوق كل ذي علمٍ عليم}
وقول ( لا أدري) كان يعُدُّه السلف بنصف العلم
لم أقف على رواية أبي ذر ولكن وقفت على رواية غيره:
جاء في سنن الداراميقال:
أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ , عَنْ مُغِيرَةَ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ : لاَ أَدْرِي نِصْفُ الْعِلْمِ.
وجاء في أنساب الأشراف للبلاذري:
وحدثت عن اسحاق بن عيسى بن علي عن أبيه قال: سأل ابن عباس بعض أصحابه عن شيء فقال: لا أدري، فقال ابن عباس: أحسنت، كان يقال: إن قول لا أدري نصف العلم.
وجاء في تاريخ أبي زرعة:
حدثنا أبو زرعة قال : حدثنا أبو مسهر قال : سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول : لا أدري لم لا أدري نصف العلم ؟
وجاء في الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء (ص: 38) :
قَالَ أَبُو عُمَرَ (= ابن عبد البر) صَحَّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَا أَدْرِي نِصْفُ الْعِلْمِ ا.هـ
قال ابن وهب -رحمه الله -:
لو أردُّتُ أنصرف كل يومٍ بألواحي ملأى عند مالك بن أنسٍ فيما يُسْأل، ويقول: ((لا أدري))، انصرفت بها.
قال ابن سرح- توفي سنة (250هـ) -رحمه الله -:
وقد صار لا أدري عند أهل زماننا هذا عيبًا!
«الكامل لابن عدي» (1/93)
* قال الشيخ بكر أبو زيد – رحمه الله- :
جنة العالم : لا أدري , ويهتك حجابها الاستنكافُ منها , وقوله : يقال , أو سمعت, أو ما شابههما ,
وإن كان نصف العلم لا أدري , فنصف الجهل : يقال , أو أظن , فانتبه لهذا , وفقك الله !
حلية طالب العلم
* قال بعض العلماء :
ليس معي من العلم إلا أني أعلم أني لست أعلم.!
جامع بيان العلم وفضله (1/259)
قال عبد الرحمن بن مهدي:
كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل فقال له: يا أبا عبد الله جئتك من مسيرة ستة أشهر حمّلني أهل بلدي مسألة أسألك عنها.
قال: فسل.
فسأله الرجل عن المسألة، فقال: لا أحسنها. قال: فبهت الرجل كأنه قد جاء إلى مَن يعلم كل شيء.
فقال: أي شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم؟!
قال: تقول لهم: قال مالك: لا أحسن
جامع بيان العلم وفضله (2/117)
* قال ابن عُمر – رضي الله عنهما - :
للعلم ثلاثةٌ : كتاب ناطق -القرآن- , وسنة ماضية -الحديث الثابت-, ولا أدري .
عيون الأخبار (5/130) .
* قال ابن بطة العكبري - توفي سنة (387 هـ) -رحمه الله -:
فهذا عبد الله بن مسعود يحلف بالله أن الذي يفتي في كل ما يسألونه مجنون، ولو حلف حالف لبر، أو قال لصدق
إن كثير المفتين في زماننا هذا مجانين؛ لأنك لا تكاد تلقى مسئولا عن مسألة متلعثما في جوابها، ولا متوقفا عنها، ولا خائفا لله، ولا مراقباً له أن يقول له: من أين قلت ؟ بل يخاف ويجزع أن يقال: سئل فلان عن مسألة فلم يكن عنده فيها جواب،
يريد أن يوصف بأن عنده من كل ضيق فرجا، وفي كل متعلق متهجرا، يفتي فيما عيي عنه أهل الفتوى، ويعالج ما عجز عن علاجه الأطباء،
يخبط العشوة ويركب السهوة، لا يفكر في عاقبة ولا يعرف العافية، إذا أكثر عليه السائلون وحاقت به الغاشية .
«إبطال الحيل» (ص66) ، نقلاً عن كتابي ( شكوى أئمة السلف من حال أهل زمانهم )
قال وهب بن منبه -رحمه الله- لرجل من جلسائه:
ألا أعلمك طبًّا لا يتعايا فيه الأطبّاء، وفقها لا يتعايا فيه الفقهاء، وحلما لا يتعايا فيه الحلماء؟
قال: بلى يا أبا عبد الله.
قال: " أما الطب الذي لا يتعايا فيه الأطباء، فلا تأكل طعاما إلا ما سميت الله على أوله، وحمدته على آخره، وأما الفقه الذي لا يتعايا فيه الفقهاء، فإن سئلت عن شيء عندك فيه علم فأخبر بعلمك، وإلا فقل: لا أدري، وأما الحلم الذي لا يتعايا فيه الحلماء، فأكثر الصمت، إلا أن تسأل عن شيء "
حلية الأولياء (4/35)
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
يا بردها على الكبد!! أن تقول لما لا تعلم الله أعلم.
(تاريخ دمشق) (42/510)
قال حُذيفة بن اليمان:
إنما يفتي الناس أحد ثلاثة: رجل يعلم ناسخ القرآن ومنسوخه، وأمير لا يجد بدا، وأحمق متكلف.
عقب ابن سيرين -رحمه الله- :
فأنا لست بأحد هذين، وأرجو أن لا أكون أحمق متكلفا.!
جامع بيان العلم (2/320)
وأخيراً نختم بكلام العلامة ابن باز رحمه الله تعالى
قال رحمه الله :
أنا طالب علم , كثيرا ما توجه إلي المسائل عن أمر من الأمور , سواء في العبادة أو غيرها , فأعرف الإجابة جيدا , إما عن سماع أحد المشايخ , أو في الفتاوى , ولكن يصعب علي استحضار الدليل الصحيح فقد يصعب علي ترجيحه فبماذا توجهون طلبة العلم في ذلك ؟
فأجاب :
لا تفتي إلا على بصيرة , وأرشدهم إلى غيرك ممن تظن في البلد أنه خير منك وأعلم بالحق , وإلا فقل : أمهلوني حتى أراجع الأدلة وأنظر في المسألة , فإذا اطمأننت إلى الصواب بالأدلة , فأفتهم بما ظهر لك من الحق .
وأوصي المدرسين لأجل هذا السؤال وغيره : أن يعنوا بتوجيه الطلبة إلى هذا الأمر العظيم , وأن يحثوهم على التثبت في الأمور , وعدم العجلة في الفتوى والجزم في المسائل إلا على بصيرة , وأن يكونوا قدوة لهم في ذلك بالتوقف عما يشكل والوعد بالنظر فيه بعد يوم أو يومين , أو في الدرس الآتي , حتى يتعود الطالب ذلك من الأستاذ بعدم العجلة في الفتوى والحكم , إلا بعد التثبت والوقوف على الدليل , والطمأنينة إلى أن الحق ما يقوله الأستاذ , ولا حرج أن يؤجل إلى وقت آخر , حتى يراجع الدليل , وحتى يراجع كلام أهل العلم في ذلك .
فقد أفتى مالك في مسائل قليلة , ورد مسائل كثيرة , قال فيها : لا أدري . وهكذا غيره من أهل العلم .
فطالب العلم من مناقبه أن لا يعجل , وأن يقول : لا أدري فيما يجهل .
والمدرسون عليهم واجب عظيم , بأن يكونوا قدوة صالحة , في أخلاقهم وأعمالهم للطلبة , ومن الأخلاق الكريمة أن يعود الطالب كلمة لا أدري , وتأجيل المسائل ، حتى يفهم دليلها وحتى يعرف حكمها .
مع التحذير من الفتوى بغير علم , والجرأة عليها .
والله ولي التوفيق .
" فتاوى الشيخ ابن باز " ( 7 / ص 241) .
وصلى الله على نبينا مُحَمَّدٍ وآله وصحبه وسلم
كتبه أخوكم ومحبكم : أبومقبل يونس بن سعيد العدني غفرالله له في مكة ١٤٣٨/٥/١٤للهجرة
0 التعليقات:
إرسال تعليق